ARTICLE AD BOX
12:57 م الخميس 26 يونيو 2025
الإسماعيلية - أميرة يوسف:
على ضفاف بحيرة التمساح في محافظة الإسماعيلية، حيث تلتقي المياه بالسماء في مشهد لا يُمل، ترسو فلوكة صغيرة لا يتجاوز طولها عدة أمتار، لكنها تحمل أربعين عامًا من الحكايات، والتعب، والأمل. إنها فلوكة “عم عرفة”… الرجل الذي جاء من الدقهلية، وقرر أن تكون مياه القناة وطنًا، والخلول رزقًا، والسماء صديقًا دائمًا.
جاء عم عرفة من بيت يعشق البحر، ورث مهنة الصيد عن والده، وتعلم منذ صغره كيف يغزل الشباك بإبرة صغيرة وخيط متين، كيف يقرأ الماء قبل أن يتحرك، وكيف يُخرج الرزق من قلب البحر برحمة لا بطمع. شدّ رحاله إلى الإسماعيلية قبل سنوات طويلة، لم يكن يملك سوى فلوكة قديمة وشبك نسجه بيده، لكنه كان يحمل في قلبه البحر، وفي صدره صوتًا نادرًا.
يبدأ يومه قبيل الفجر، ينهض من داخل الفلوكة حيث يبيت ليلًا، يمد يديه للسماء، ويبدأ في الابتهال بصوت عذب رخيم، صوته يملأ البحيرة وهمسات دعائه تتحرك مع الموج. “يا رب رزقك وسترك.. يا رزاق يا كريم”، يرددها وهو ينظر للسماء، ويقسم أن البحر يحنو عليه عندما يبتهل.
لا يُجيد عم عرفة الصيد فقط، بل يجيد الغناء للبحر، ويصنع من الخلول طبقًا لا يُنسى، ليس مجرد صياد، بل فنان في الطهي. عند الغروب، يعود إلى الشاطئ محمّلًا بصيده، يفرش البلطي والبوري والسيجانا والخلول على الطاولة الخشبية الصغيرة، ويبدأ في إعداد أطباقه المميزة، وعلى رأسها “الخلول”، الذي يعتبره “ملك البحر”.
يتوافد الناس عليه من كل مكان، بعضهم جاء ليأكل، وآخرون جاءوا ليسمعوا. فلكل صنف من السمك عند عم عرفة حكاية، ولكل زبون نصيب من الدفء. وهو، في بساطته، لا يتوقف عن الحديث والابتسام وتقديم الأطباق وكأنها هدايا من البحر.
الخلول عند عم عرفة ليس مجرد أكلة، بل قصة تراثية تبدأ من عمق البحيرة وتنتهي بطبق متكامل الطعم والفائدة. فالخلول – أو محار البحيرات – يشكل 42.28% من إنتاج البحيرات في مصر، ويُعد كنزًا غذائيًا غنيًا بالبروتين والدهون المفيدة للمخ وبناء الخلايا العصبية، فضلًا عن دوره كمقبلات شهية وأساس لحساء بحري يُقدَّم في أرقى المطاعم.
ويقول عم عرفة بفخر: “فيه خلول بنسميها العرايس، لونها مائل للحمرة وملمسها ناعم، ودي بتكون في التمساح والبحيرات المرة. وفي نوع تاني اسمه الخلول السباع، وخلول بلطي، دي بتتاكل مملحة على طول وبتشوفها كتير في بورسعيد”.
الخلول يُصاد بعدة طرق، منها طريقة الجرافة ذات السنون الطرفية، وتُستخدم في البحيرات العميقة جنوب الإسماعيلية، ومنها طريقة “الكريك والمهزة” اللي بتعتمد على فريق صغير يجرف الرمل ثم يصفيه لاستخراج المحار، وبعض الصيادين مازالوا يغوصون بأيديهم بحثًا عن الخلول، رغم صعوبة الطقس ومخاطر الأمواج، خاصة في الشتاء حين ينضج المحار في البحر المتوسط.
في الصيف، تنشط حركة صيد وبيع الخلول في الإسماعيلية، ويتراوح سعر الكيلو بين 20 و60 جنيهًا حسب الحجم والموسم، أما عم عرفة، فيقدم طبقه الخاص بأسلوبه المميز، مع الليمون والتوابل والشطة الحريفة، أحيانًا كحساء وأحيانًا على الجمر، والنتيجة طبق بحر لا يُنسى.
وفي المساء، بعد أن ينصرف الزبائن ويهدأ الموج، يجلس عم عرفة على حافة فلوكته، يُبتهل مرة أخرى، يغني للبحر، ويغني لنفسه ثم يستلقي في الفلوكة، يلف نفسه ببطانية خفيفة، وينام في حضن البحر. لا يشكو الوحدة، بل يحمد الله على رزق اليوم.
يقول: "أنا ما عرفتش الراحة إلا وسط الميّه.. والابتهال لله وأنا وسط البحر بيخليني أحس إني مش لوحدي أبدًا".